أفكار و تحليلات
القادم أسوأ إن لم نعالج الأزمات جذريا
بقلم:د. رلى الفرا الحروب
الجريمة البشعة التي راحت ضحيتها الطالبة في السنة الاولى الجامعية على يد والدها لمجرد انها اخفقت في الحصول على معدل اكاديمي جيد يؤهلها للاستمرار في المنحة الدراسية التي حصلت عليها سابقا، والطريقة التي قتلت بها الفتاة بسلك كهربائي وضرب متواصل لمدة ساعة تشي بالعديد من المؤشرات الخطرة.
1. أنها ليست حادثة معزولة أو منفردة، بل تأتي في سياق من جرائم العنف التي تفشت في مجتمعنا بشكل عام، و العنف المجتمعي الذي تصاعدت حدته بشكل خاص، والعنف ضد المرأة بشكل أخص، وهي استمرارية لنمط ازداد حدة في عصر الكورونا والإغلاقات والحبس في البيت وقلة المال وفقدان العمل والأمل والضغط النفسي المتواصل الذي تتعرض له فئات من الشعب، لا سيما الأكثر فقرا والأقل تعليما.
2. إقدام الأب على ضرب ابنته بهذه الطريقة الوحشية يكشف وجود افتراض لطالما كان سائدا بين بعض الآباء وحتى الأمهات أنهم يملكون أبناءهم، وبالأخص البنات منهم، وأن من حقهم أن يفعلوا بهم ما يشاءون، بل إن من واجبهم أن يوقعوا عليهم العقوبة بما في ذلك البدنية حين يخطئون أو يخذلون أهاليهم ويخفقون في تحقيق توقعاتهم، فالكف الذي يبدأ من علامة ناقصة في الامتحان، يتطور إلى ضرب بالعصا أو المكنسة أو الحزام، ثم إلى حرق بالسيجارة والمكواة أو ضرب بالأسلاك الكهربائية! هذا السلوك الإجرامي تطور ونما لأنه مسكوت عنه، ولا يوجد من يردعه او يوقفه، فالاسرة لدينا مغلقة على أسرارها، والدولة لا تتدخل لحماية الاطفال أو الشباب او الفتيات من أهاليهم، إلا بعد فوات الفوت وبعد أن يغادر السيف العذل. وما زال مجتمعنا يرفض اصلا تدخل الدولة في حماية الضعفاء داخل الاسرة من بطش القوي، ويعتبرون ذلك شأنا خاصا لا ينبغي أن تدس الدولة أنفها فيه، ولذلك، فإن إدراك أهمية العمل الذي تقوم به دائرة حماية الاسرة ما زال بحاجة إلى الكثير من التطوير والتوعية المفاهيمية.
3. موضوع ضرب الأهالي لأبنائهم يجيزه قانون العقوبات تحت باب الضرب التأديبي دونما تحديد لماهية ذلك الضرب التأديبي، وهو ما يتطلب تغيير هذه المادة في قانون العقوبات لتحريم الضرب بكل أنواعه، لأن ما يبدأ تأديبيا ينتهي إجراميا كما شاهدنا في هذه الجريمة وغيرها، وكما حرم الاسلام شرب أي ذرة من الخمر أو المسكرات، قائلا إن ما كان كثيره مسكر فقليله حرام، أصبح واجبا علينا تحريم الضرب تحريما مطلقا لأنه يقود إلى ما هو أسوأ، ويعطي الفرصة للأهل للشعور بانهم يملكون حق إيذاء أبنائهم، وهذا أمر مرفوض بكل القيم التربوية الحديثة، ومخاطره لا تعد ولا تحصى.
4. العنف ضد الفتيات يأخذ طابعا خاصا بالطبع، فإدراك القوي لقوته، غالبا ما يقابله إدراك الضعيف لضعفه، وهذه الفتاة كما هو واضح لم تدافع عن نفسها، ولم تجد من يدافع عنها في المنزل، لا اليوم ولا أمس ولا قبل أمس، وهي مسألة خطيرة تنبئنا بالدرك الذي وصلنا إليه كبشر، حين تضرب الفتيات وحتى الفتيان امام اعين الأم او باقي افراد الأسرة، وربما على مرأى أو مسمع من الجيران، ولا يتدخل أحد، باعتبار ذلك حقا للأب أو من يملك السلطة في المنزل في تقويم سلوك الأفراد الخاضعين لتلك السلطة!!
5. سبب الضرب المبرح الذي تعرضت له الفتاة هو إخفاقها في الحصول على معدل جامعي جيد، وهو ما يهدد بفقدها للمنحة الدراسية التي حصلت عليها بصعوبة أو بمشقة أو ربما بمائة واسطة ورجاء. وهنا أتوقف أمام ثلاث مسائل:
الأولى هي فشل التعليم عن بعد في تحقيق أهدافه، وتحوله إلى ما يشبه التجهيل عن بعد، خاصة وأنه لا يلائم خصائص الكثيرين من الطلبة والطالبات، وهذا ليس ذنبهم ولا ذنب المعلمين، بقدر ما هو فشل للمنظومة التربوية كلها التي لم تنجح خلال عامين من تطبيق هذا النظام في تدارك عيوبه ووضع حلول فعالة لها.
الثانية: ان الكثير من الطلبة والطالبات يدفعون دفعا الى تخصصات لا يرغبون بها ولا تعبر عن ميولهم او قدراتهم، إما بسبب ضغوطات الأهل أو بسبب المعدل، وهو ما ينتج هذا الفشل الأكاديمي الذي دفعت ثمنه هذه الفتاة حياتها، ويستوجب علاجا لكل المعايير القديمة التي اعتدنا ان نقبل بها الطلبة في التخصصات الجامعية.
الثالثة والأهم: أن تكاليف التعليم العالي في الاردن باتت لا تطاق، وأضحت عبئا كبيرا على الاهل بحيث ان الحصول على منحة هو اشبه بحلم وفرصة، ان ضيعها الابناء شعر الاباء بان عليهم ان يفتشوا عن المال للانفاق على تعليم ابنائهم، ومع تأزم الاوضاع الاقتصادية خاصة في زمن الكورونا الذي فقد فيه اكثر من نصف الاردنيين أعمالهم أو مصادر دخلهم ويقبع نصف الشباب في خانة البطالة والعجز عن ايجاد فرص عمل للانفاق على دراستهم وعلى انفسهم وعلى أهاليهم، فإن فقدان هذه المنحة (الفرصة) يعد خيبة أمل كبيرة ومصدرا خطيرا للإحباط، وخيبات الأمل والإحباطات كثيرا ما تدفع الاشخاص إلى العنف والعدوان، حتى العقلاء منهم.
6. إن إقبال هذا الأب على ضرب ابنته الشابة بهذا العنف والجنون المتوحش، يشي بأنه خرج عن كل أطوار العقلانية والإنسانية واستسلم لنوبة من الغضب الخارج عن كل الحسابات، وهذه الحالة لا يصل إليها الانسان الطبيعي بين غمضة عين وانتباهتها، ولا تأتي استجابة لحدث مفرد، بل تأتي عادة نتيجة لتراكمات موجات مزمنة ومتواصلة وحادة من الإحباطات والضغوط النفسية على أكثر من صعيد سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، إلا إن كان هذا الأب مدمنا على تعذيب أبنائه بالأساس، ولم يكن هناك من رادع يردعه، ومن ثم فإن الجرم في هذه الحالة ليس إلا استمرارية لنمط سلوكي مرضي لم يجد من يقومه أو يحاسبه عليه في المقام الأول.
7. معظم الأشخاص اليوم، بالأخص أرباب الأسر الملزمون بالإنفاق على أسرهم في ظل ضيق الإمكانات وقمع الحريات يشعرون برغبة شديدة في إلقاء اللوم على النظام السياسي الذي أوصل الأوضاع الاقتصادية إلى هذا التردي، ونظرا لعجزهم عن الحديث عن ذلك علانية، خوفا من العقاب، فإنهم عادة ما يلجأون إلى حيلة نفسية هي آلية من آليات الدفاع النفسي نسميها " تحويل العدوان"، حيث يفش الشخص غله في شخص آخر غير الذي تسبب في مأساته ومعاناته بالأساس، وغالبا ما يكون هذا الشخص الضحية موضع فشة الغل شخصا أضعف من الجاني لأنه يدرك أنه يستطيع أن يفش فيه غله دون حساب أو عقاب، ولذلك، فإن الاباء غالبا ما ينفسون عن غضبهم ممن هم أقوى منهم واعلى سلطة في الهرم الاجتماعي والسياسي والاقتصادي فيمن هم أضعف منهم وأقل سلطة، كالزوجة والأبناء، وهكذا يمكننا تصور أن الفتاة المسكينة لم تكن هي المقصودة بكل هذا الغضب الذي انفجر به الأب، بقدر ما كانت رمزا لسلسلة الاحباطات التي فشل الاب في التعامل معها بعقلانية وبكفاءة.
وأخيرا، فقد سبقت ان حذرت في كتاباتي مرارا من أن الانفجار في الاردن لن يكون سياسيا، وإنما اجتماعي، وما نشهده من سلسلة الجرائم البشعة المتكررة ينبئ أننا نسير طريقا خطرا للغاية، وإن لم نبادر على الفور إلى نشر ثقافة الديمقراطية والتسامح والمحبة واستعادة الثقة المفقودة بالمؤسسات، وإن لم نضع حلولا جذرية تتيح التعليم العالي المجاني للمحتاجين والمتفوقين، وتوفر فرص عمل لأبناء المجتمع من كل الاعمار ومن الجنسين، وإن لم نراجع منظومة التعليم الفاشلة والتربية الاكثر فشلا، وإن لم نقف وقفة جادة مع الذات دون مجاملات، فإن الأسوأ قادم. #الأردن